أعلنت وزارة الخارجية التونسية رفض انضمام تونس للدعوى التي أقامتها جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني لارتكابها جرائم إبادة جماعية وذلك أمام محكمة العدل الدولية "لما في ذلك من اعتراف ضمني بهذا الكيان". وهو رفض وإن كان يتأسس على موقف علني صارم للدبلوماسية التونسية عنوانه عدم الاعتراف بإسرائيل، فهو يطرح مجددًا معضلتين: أولًا، النجاعة من حيث تقليص النفاذ للآليات القانونية المتاحة لمساءلة الكيان الصهيوني على جرائمه، وثانيًا، هشاشة حجة رفض الاعتراف لتبرير التخلّف عن ممارسة الضغوطات اللازمة ضد الكيان وبما يدفع بالخصوص للتناقض في المضي في آليات دولية دون أخرى.
رفض تونس الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا، زاد في تعزيز الاعتقاد بالهوّة بين الخطاب الرئاسي، ومحدودية أداء الدبلوماسية التونسية في تطبيق هذا الخطاب على الأرض
زاد رفض تونس الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا، في تعزيز الاعتقاد لدى جمهور واسع بالهوّة بين الخطاب الرئاسي الحاسم في مواجهة الكيان الصهيوني من جهة، ومحدودية أداء الدبلوماسية التونسية في تطبيق هذا الخطاب على الأرض.
- تناقض وعدم انسجام في المواقف؟
ليس رفض الانضمام للدعوى هو القرار الأوّل من نوعه للدبلوماسية التونسية منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة. فخلال شهر أكتوبر/تشرين الأول المنقضي، تحفّظت تونس "جملة وتفصيلًا" على قرار مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري في دورته غير العادية بفقرة بدايتها أن "فلسطين ليست ملفًا أو قضية فيها مدع ومدعى عليه". وهو تحفّظ بدا سعيًا لإظهار حزم الموقف الرسمي الداعم للقضية الفلسطينية أمام ما ظهر برود العواصم المؤثرة في الجامعة العربية بخطابها الكلاسيكي.
المعضلة التي تطرحها التحفظات التونسية تحديدًا، هو في تناقضها مع أداء الدبلوماسية نفسها، فبعد تحفظها على قرار أول، صوتت لفائدة قرار آخر للجمعية العامة بعد شهرين، رغم أن القرارين ينضويان، إجمالًا، في الخانة ذاتها
ولكن لاحقًا، وفي نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، كان لافتًا أن تتحفّظ تونس أيضًا على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي دعا خلال دورة استثنائية طارئة إلى "هدنة إنسانية فورية ودائمة ومتواصلة تفضي إلى وقف لإطلاق النار"، والذي نال موافقة ساحقة بأغلبية 120 دولة ورفض 14 بينها الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة مع تحفّظ 45 بلدًا بينها تونس. وبرّر المندوب التونسي وقتها التحفظ بإغفال القرار لـ"الإدانة الصريحة والقوية لجرائم الحرب والإبادة الجماعية"، وعدم المطالبة بمحاسبة الكيان الصهيوني دونًا عن "مساواته بين الضحية والجلاد".
والمعضلة التي تطرحها التحفظات التونسية تحديدًا، قرار الجمعية العامة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 وثم رفض الانضمام للدعوى ضد الكيان الصهيوني، ليس تناقضها الظّاهر مع الخطاب الرسمي، باعتبار أن التحفظات يقع تقديمها كمواقف متقدّمة ومتشدّدة في إسناد القضية الفلسطينية، ولكن في تناقضها مع أداء الدبلوماسية نفسها. إذ بعد التحفظ على قرار أكتوبر/تشرين الأول 2023، صوتت تونس لفائدة قرار آخر للجمعية العامة بعد شهرين، في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، رغم أن القرارين ينضويان، إجمالًا، في الخانة ذاتها وهي خانة وقف إطلاق النار، وعلى النحو بالخصوص الذي عكسه تقريبًا تطابق خارطة التصويت الأممي.
رفض الاعتراف، ولو الضمني، يقتضي من باب أولى، دعم السلطة التنفيذية لتشريع محلّي للغرض سواء كان بعنوان قانون لتجريم التطبيع أو بتنقيح للمجلة الجزائية
عدم انسجام المواقف بحسب مراقبين يتبيّن أيضًا أنه توازيًا مع رفض الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا بتعلّة عدم الاعتراف الضمني بالكيان الصهيوني، فإن الخارجية التونسية أعلنت مشاركتها في المرافعات الشفاهية في إطار الرأي الاستشاري الذي طلبت الجمعية العامة للأمم المتحدة استصداره من المحكمة حول الآثار القانونية عن انتهاك إسرائيل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.
- رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني ورفض تجريم التطبيع
يعيد الاستناد على الخشية من رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني بعدم الانضمام للدعوى في محكمة العدل الدولية، إلى تبرير رئيس الدولة قيس سعيّد رفضه لقانون تجريم التطبيع مع الكيان للسبب ذاته، فهو يرفض لفظ "التطبيع" باعتباره "يعكس فكرًا مهزومًا" ويفضل الحديث عن "خيانة عظمى". ويقترح، في هذا الصدد، الاستئناس بالفصل 60 من المجلة الجزائية بتحديد صور لخيانة الشعب الفلسطيني وفق قوله.
يفترض رفض الاعتراف بإسرائيل، تصديًا عمليًا لدخول حاملين لجوازات سفر إسرائيلية للتراب التونسي في زيارة معبد الغريبة بجربة كل عام
الموقف الرئاسي وبغض النظر عن النقاش حول المفاهيم القانونية، ظهر بأنه نكوص في مواجهة مختلف أشكال الاعتراف بالكيان الصهيوني. إذ يُطرح السؤال حول جدية رفض الاعتراف من زاوية أن رئيس الدولة لم يعلن مثلًا عزمه تقديم مشروع قانون لتنقيح المجلة الجزائية لتجريم "الخيانة" وفق تعبيره، وذلك إن ما كان تحفظه عن قانون تجريم التطبيع ليس تحفظًا عن وجود تشريع يتعلّق برفض الاعتراف بالكيان الصهيوني.
- سؤال نجاعة وليس مصداقية
تجاوزًا لمسألة مصداقية أو جديّة المواقف الرسمية العلنية، فإن حجة رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني لتبرير الانضمام للدعوى ضد الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل تظهر هشّة من زاوية عدم صرامة الأخذ بها وتقدير الدبلوماسية نفسها بنفسها بالنهاية حول إن ما كان إجراء ما ضد الكيان يعدّ اعترافًا به أم لا. رفض الاعتراف، ولو الضمني كما أوردت الخارجية في بلاغها، يقتضي، من باب أولى، دعم السلطة التنفيذية لتشريع محلّي للغرض سواء كان بعنوان قانون لتجريم التطبيع أو بتنقيح للمجلة الجزائية. كما يفترض تصديًا عمليًا لدخول حاملين لجوازات سفر إسرائيلية للتراب التونسي في زيارة معبد الغريبة بجربة كل عام، على نحو المطالبات المتتالية للحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني.
توجد قناعة متصاعدة بأن الخطاب الرئاسي الصارم ظاهرًا لم يتم تنزيله بالشكل المطلوب، فضلًا عن قناعة أخرى بأن الخطاب الرئاسي هو إنشائي بحت دون مفاعيل مؤثرة على الأرض
فتزامنًا مع انطلاق أولى جلسات محكمة العدل الدولية، حمل متظاهرون في وقفة تضامنية أمام مقر سفارة جنوب إفريقيا بتونس لافتة بعنوان "نم يا قيس نم. فلا نامت أعين المزايدين الجبناء". إذ توجد قناعة متصاعدة أن الخطاب الرئاسي الصارم ظاهرًا لم يتم تنزيله بالشكل المطلوب سواء عبر الآليات المحلية أو الدولية الممكنة. وظهرت الدبلوماسية التونسية في مأزق متتابع، بين حدّة الخطاب من جهة وضعف التحركات من جهة أخرى.
هناك قناعة متصاعدة على أن الخطاب الرئاسي هو إنشائي بحت دون مفاعيل مؤثرة على الأرض. فاعتراف جنوب إفريقيا بالكيان الصهيوني لم يمنعها أن ترفع ضدها دعوى تاريخية بسبب جرائم الإبادة المرتكبة ضد الفلسطينيين. تباعًا، يظهر من باب أولى وأحرى أن الدول التي لا تعترف رسميًا بالكيان الصهيوني على غرار تونس يجب أن تدفع نحو اتخاذ كل الآليات اللازمة لمحاصرة الكيان الصهيوني في الساحة الدولية. والرهان المحمول على الدبلوماسية التونسية على وجه التحديد وذلك بالنظر للخطاب الرسمي الصارم لقيس سعيّد دعمًا للقضية الفلسطينية.