15-مارس-2018

تونسي يتلقى علاجًا بمستشفى شارل نيكول بالعاصمة (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ.ف.ب)

 

لم يقدر لابنة "محسن الشعيبي" القاطن بسيدي بوزيد أن ترى النور. فجعت عائلتها، بفقدانها في بطن أمها أيامًا قبل الولادة جراء غياب الرعاية الطبية المختصة في الجهة. رقم جديد يضاف لعدد الوفيات قبل الولادة أو بعدها وقصة أخرى حزينة تهز الرأي العام الوطني لتنسى سريعًا حتى يستفيق مرة أخرى على المأساة التالية. غير أن سؤالًا ملحًّا يُطرح مجددًا، لماذا عجزت المنظومة الصحية في تونس على القيام بدورها السابق في توفير الرعاية الصحية للتونسيين؟

سيدي بوزيد كما غيرها من الجهات الداخلية، تشكو نقصًا فادحًا في أطباء الاختصاص. ووفق الإحصائيات الواردة بـالخارطة الصحية المنشورة على الموقع الرسمي لوزارة الصحة، فإنها رفقة ولايات القصرين وقفصة وتطاوين الأكثر حرمانًا من الخدمات الصحية. ولا يخفى حقيقة سوء الخدمات وضعفها في تلك المناطق على عيني الناظر فمؤسسات الرعاية الأساسية تفتقر لأبسط تجهيزات الكشف الأولي، وهو أمر تعاني منه المستشفيات المحلية والجهوية أيضًا التي غاب عنها طب الاختصاص ويرفض الأطباء الجدد الالتحاق بها "لأسباب موضوعية"، على حد تعبيرهم.

لا تزال الجهات الداخلية في تونس تسجل نقصًا حادًا على مستوى الأطباء والمرافق الصحية

ولا يختلف اثنان اليوم، على أن دعائم السياسة الاجتماعية في تونس، تقادمت وتقوض بعضها بفعل الزمن. ولا يتجادل اثنان على أنه في ما يجري، بسعي محموم، لتحصيل الحقوق السياسية والاقتصادية إبان الثورة، تآكلت المنظومة الاجتماعية ودقت نواقيس الخطر بقرب انهيارها. ويتقاطع مكونا المنظومة الأساسيان في الوهن، ففي الوقت الذي سجلت فيه مؤسسة الضمان على المرض عجزًا وأزمة اعتلت الصحة العمومية والخاصة بدورها، في حلقة مفرغة يجزم الخبراء أن لا إصلاح لأحدهما دون تقويم الآخر. 

صيحات فزع من هنا، ونواقيس خطر تدق هناك إيذانًا بقرب انهيار المنظومة الصحية في تونس. والخبر بكل تفاصيله مفزع للجميع. وعدّد كاتب عام عمادة الأطباء الدكتور نزيه الزغل لـ"الترا تونس" مكامن الوهن في المنظومة. ويعتبر اختلال التوازن بين الجهات أبرز ملامحها، إذ لا تزال الجهات الداخلية تسجل نقصًا حادًا على مستوى الأطباء والمرافق الصحية.

علاوة على ذلك فإن البلاد شهدت تضخمًا في عدد أطباء الاختصاص الذين يمثلون 55 في المائة من جملة الأطباء على حساب الطب العام الذي يمثل الخط الأول للتداوي. ويضيف ذات المتحدث أن المستوصفات التي تستقبل عددًا مهولًا من المرضى لا يزورها أطباء الاختصاص إلا مرة واحدة في الأسبوع، وهو ما ينتج عنه تضخم عدد المرضى الذين يقصدون المستشفيات الجامعية ويطيل أيام انتظارهم لسرير أو موعد علاج.

لا تتجاوز الميزانية الموجهة للصحة 7 في المائة من الناتج القومي الخام في تونس

اقرأ/ي أيضًا: الصناديق الاجتماعية في تونس.. إفلاس غير معلن

ومن مظاهر الوهن الذي أصاب المنظومة، النقص الفادح المسجل في كمية الأدوية وضعف الميزانية الموجهة للصحة، فهي لم تتجاوز 7 في المائة من الناتج القومي الخام، وهو معدل ضعيف وفق ما يقدره الدكتور الزغل، حيث لا يفي بمتطلبات الصحة بكافة أوجهها ويؤثر على كافة حلقاتها. بيد أن عجز صندوق التأمين على المرض ساهم بدوره في تعميق الأزمة، ويرى كاتب عام العمادة في هذا الصدد أن الصندوق توقف منذ قرابة السنة عن تسديد ديونه لدى المصحات والمستشفيات ودفع مستحقاتهم.

وإن كانت دول أخرى، شهدت ازدهار القطاع الصحي الخاص على أنقاض نظيره العام، فإن تونس صنعت استثناء خاصًا فقد رافق تراجع المؤسسات الاستشفائية العمومية تقهقرًا للخاصة أيضًا.

ويؤكد الدكتور بوبكر زخامة رئيس الغرفة الوطنية لأصحاب المصحات الخاصة لـ"الترا تونس" أن الجزم بأن الخواص يجنون ربحًا وفيرًا ويستغلون أزمة الصحة العمومية لفائدتهم "كليشيه سطحي". ويستدل على ذلك بإغلاق عدد هام من المصحات أبوابها بعد إفلاسها. ويعود ذلك إلى عدة أسباب من بينها أن المنظومة التشريعية تفرض قيودًا على الخواص خلال ممارستهم لمهنة الطب في إطار مؤسسات خاصة، ويمنع على هذه الأخيرة ممارسة بعض الاختصاصات التي بقيت حكرًا على القطاع العام. وإضافة الى كل ذلك، شهد القطاع الخاص ارتفاعًا صاروخيًا لتكلفة السرير الواحد نتيجة التضخم المالي وتراجع سعر الدينار التونسي فكلفة الجهاز الطبي تضاعفت لثلاثة مرات خلال هذه الفترة، كما فرضت اتفاقيات الزيادة في الأجور زيادة بلغت 40 في المائة في أجر الطبيب والعملة وهي مصاريف تتحملها المصحات وتسعى لتعويضها من خلال أجرة العلاج التي تبدو باهضة للمريض.

ومن المنطقي أن يغطي صندوق التأمين على المرض جزءًا من كلفة العلاج، غير أن أزمته أثرت أيضًا على ذلك وفاقمت ديون المؤسسات الاستشفائية الخاصة. ويوضح الدكتور زخامة في هذا السياق، أن التعريفات الواردة في الاتفاقيات مع صندوق التأمين على المرض لم تحيّن منذ 10 سنوات ولم تعد تترجم واقع التكلفة الحقيقية ما قد يدفع هذه المصحات لتعليق العمل بها.

وزير الشؤون الاجتماعية التونسي:  المنظومة التضامنية التي أسستها دولة الاستقلال على حافة الانهيار

صندوق التأمين على المرض، تلك قضية أخرى وواحد من أهم مكامن الداء. ورغم أن مسؤوليه ممتنعون عن الكلام والتعليق على وضعه، فإن تقرير دائرة المحاسبات كشف جوانب هامة من أسباب عجزه. فالفساد ينخره منذ سنوات، وسجل حالات من التحيل كلفته مئات الآلاف من الدنانير على غرار إدراج متوفين في قائمة المنخرطين في منظومة استرجاع المصاريف، وإسناد أدوية لغير مستحقيها يدفع كلفتها الصندوق إلى ذلك من عمليات "السرقة المقنعة". وكان وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي قد أوضح في تصريحات سابقة له أن " المنظومة التضامنية التي أسستها دولة الاستقلال على حافة الانهيار، فالنموذج الذي أُسست عليه تم وضعه وفق معطيات خاصة بتلك الحقبة وتغيرها أثر في الصناديق الاجتماعية". تضخّم عدد المنخرطين والمستفيدين بخدمات الصندوق خلال سنوات، أضعف قيمة المساهمات مقارنة بالمصاريف المستوجب دفعها من قبل الصندوق، الفساد الذي تغلغل صلبه… جميعها ساهمت بقدر أو بآخر في تراجع دوره إلى غاية بلوغه الشلل التام عن دفع قاطرة الصحة في البلاد.

ولئن بدا من المتفق عليه أن إصلاحًا عاجلًا وسريعًا وجب العمل عليه لإنقاذ المنظومة، فإن رئيس لجنة الصحة والشؤون الاجتماعية بالبرلمان سهيل العلويني جزم أن "الجميع يتهرب من لحظة الحقيقة، لحظة الإصلاح الجذري والشامل"٠ ويؤكد أن جانبًا كبيرًا من إصلاح الترسانة التشريعية لهذا القطاع قد تم العمل عليه ولا يحجب ذلك بالمرة وجود هنات كثيرة، فعدد هام من القوانين والتراتيب المنظمة لمهنة الطب لم تحين منذ عهد البايات، وأخرى أنجزت في ظرف اجتماعي وسياسي معين أفضى الى أزمات أكثر منها الى حلول.

لا يزال العديد من التونسيين محرومين من أبسط حقوقهم في الحصول على رعاية صحية تستجيب لتحديات هذا العصر الذي تنتشر فيه أوبئة وأمراض عديدة ومتنوعة ولا يزال عدد كبير من المستشفيات العمومية خاصة في المناطق الداخلية تنتظر قدوم أطباء اختصاص بشكل دائم. وهو ما يضع السلطات التونسية أمام ضرورة التسريع في إصلاح منظومة الصحة بتونس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

انفلونزا الخنازير في تونس.. خطر حقيقي أم خديعة لوبيات؟

احتجاجات القصرين.. هي انتفاضة المُعَطلين إذًا